تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

عميق المعنى. عجيب التعبير ، فماذا يشير اليه هذا القول : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) : انه يوحي بان الحق عميق في تصميم هذا الوجود. عميق في تكوينه. عميق في تدبيره. عميق في مصير هذا الوجود وما فيه. ومن فيه. عميق في تصميم هذا الوجود. فهو لم يخلق عبثا ، ولم يكن جزافا ، ولم يتلبس بتصميمه الاصيل خداع ولا زيف ولا باطل : (بل هو الحق المبين).

عميق في مصيره. فكل نتيجة تتم وفق تلك النواميس الثابتة العادلة. وكل تعبير يقع في السموات والارض وما بينها يتم بالحق وللحق. وكل جزاء يترتب يتبع سنة الله التي لا تحابى.

ومن هنا يتصل الحق الذي خلق الله به السموات والارض وما بينهما. بالساعة الاتية لا ريب فيها. فهي آتية لا تتخلف. وهي جزء من الحق الذي قام به الوجود. فهي في ذاتها حقيقة. وقد جاءت لتحق الحق (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ولا تشغل قلبك بما يفعلون. فالحق لا بد ان يحق (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) الذي خلق ويعلم ما خلق ومن خلق. والخلق كله من ابداعه. فهو فيه أصيل وما عداه باطل مزيف يذهب فلا يبقى الا ذلك الحق الكبير. وتلك الرسالة التي جاء بها الرسول الامين : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).

والمثاني : الارجح هي سورة الفاتحة ـ لانها سبع آيات ، كما ورد في الاثر عن سادة البشر.

عن امير المؤمنين (ع) : بسم الله الرحمن الرحيم. آية من فاتحة الكتاب ـ ومن كل سورة ـ وهي سبع آيات تمامها بسم الله

٢٦١

الرحمن الرحيم. سمعت رسول الله ص وآله يقول ان الله قال لي : يا محمد (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وعن الصادق (ع) انما سميت المثاني ، لانها تثنى في الركعتين).

وعن الامام الباقر (ع) : نحن المثاني التي أعطاه الله نبينا) ص وآله.

والمهم أن وصل هذا النص بآيات خلق السموات والارض وما بينهما بالحق والساعة الاتية لا ريب فيها. يشيء بالاتصال بين هذا القرآن المجيد والحق الاصيل. الذي يقوم به الوجود وتقوم عليه الساعة. فهذا القرآن من عناصر ذلك الحق. وهو يكشف سنن الخالق ويوجه القلوب اليها ويكشف آياته في الانفس ويستجيش القلوب لادراكها ويكشف اسباب الهدى والضلال ومصير الحق والباطل. والخير والشر. فهو من مادة ذلك الحق. ومن وسائل كشفه وتبيانه.

ومن ثم فان من أوتي هذه المثاني ، وهذا القرآن المجيد ، المستمد من الحق الاكبر ، المتصل بالحق الاكبر ، لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشيء زائل من حطام هذه الحياة ، وأعراضها الزائلة. انما يمضي في طريقه مع الحق الاصيل : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) والمعنى الذي وراء ذلك ان رسول الله ص وآله لا يحفل بذلك المتاع الذي متع الله به بعض الناس فالاسلام الذي يقوم على الحق يقرر ان الحق الباقي لا يرضى بالظلم اصلا.

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

أي فلست بدعا من الرسل السابقين الذين آتيناهم الكتاب.

٢٦٢

وهؤلاء الذين فرقوا القرآن وجعلوه عضين (أخذوا بعضه وتركوا البعض الآخر) فاقتسموه : قسما مقبولا. وقسما مردودا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

البيان : وحين يصل السياق الى هذا الحد ، يتجه بالخطاب الى الرسول ص وآله ان يمضي في طريقه ويجهر بما أمره الله أن يبلغه ويسمى هذا الجهر صدعا ـ أي شقا ـ دلالة على القوة والنفاذ ، لا يقعده عن الجهر والمضي شرك فسوف يعلم المشركون عاقبة أمرهم ولا استهزاء مستهزىء. فقد كفاه الله شر المستهزئين. فلم يعد لاستهزائهم من أثر في سير الدعوة (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)

والرسول ص وآله ـ بشر لا يملك نفسه ان يضيق صدره. وهو يسمع الشرك بالله. ويسمع الاستهزاء بدعوة الله. فيغار على الدعوة. ويغار على الحق ، ويضيق بالضلال والشرك. لهذا يؤمن أن يسبح بحمد ربه ويعبده ويلوذ بالتسبيح والحمد والعبادة من سوء ما يسمع من القوم. ولا يفتر عن التسبيح بحمد ربه طوال الحياة : (حتى يأتيه اليقين) والرحيل من هذه الدنيا الفانية الى دار الخلود والنعيم الذي لا يزول : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)

٢٦٣

ـ ١٦ ـ سورة النحل ـ وعدد آياتها مائة وعشرون آية (١٢٠)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

البيان : لقد كان مشركوا مكة يستعجلون الرسول ص وآله ان يأتيهم بعذاب الدنيا ، أو عذاب الاخرة ، وكلما امتد بهم الاجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجالا. وزادوا استهزاء ، وزادوا استهتارا ، وحسبوا أن محمدا يخوفهم بما لا وجود له ولا حقيقة ، ليؤمنوا له ويستسلموا. ولم يدركوا حكمة الله في امهالهم ورحمته في انظارهم. ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون. وآياته في القرآن ، هذه الايات التي تخاطب العقول والقلوب ، خيرا من خطابها بالعذاب. والتي تليق بالانسان. الذي أكرمه الله بالعقل والشعور وحرية الارادة والتفكير ، وجاء مطلع السورة حاسما جازما.

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) : فأن سنة الله تمضي وفق مشيئته. لا يقدمها استعجال ولا يؤخرها رجاء. وهذه الصيغة الحاسمة ذات وقع في النفس مهما تماسك او كابر الانسان.

ويفرد الانذار فيجعله فحوى الوحي والرسالة ، لان معظم سياق السورة يدور حول المكذبين والمشركين. والجاحدين لنعمة الله. والمحرّمين لما أحله الله. والناقضين لعهد الله والمرتدين عن الايمان. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

الحق قوام خلقهما. والحق قوام تدبيرهما ، والحق عنصر أصيل في تصريفهما. فما من ذلك كله عبث ولا جزاف ، وخلق من فيهما وما

٢٦٤

فيهما. فليس أحد وليس شيء شريكا له. تعالى عما يشركون.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) : ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير بين النطفة الساذجة ، والانسان المخاصم المجادل الذي يخاصم خالقه ، فيكفر به ويجادل في وجوده او في وحدانيته. وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته الى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة.

وفي المجال الواسع مجال الكون : السماوات والارض ـ الذي يقف فيه الانسان. يأخذ السياق في استعراض خلق الله الذي سخره للانسان ويبدأ بالانعام : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ)

وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان القرآن ونظرة الاسلام للحياة ، وليست النظرة في النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب. بل تلبية الاشياء الزائدة على الضرورة (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) يعقب بها على خلق الانعام ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة. وخارج حدود الزمان الذي يظلهم رويدا رويدا.

فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى. يريد الله للناس ان يتوقعوها. فيتسع تصورهم وادراكهم. ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها أو ينفروا منها. وانما نص القرآن على هذا الانصاف لوجودها في ذلك الزمان واختصاص العرب بها.

ان الاسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لجميع التطورات ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهيء القرآن الاذهان والقلوب لاستقبال كل ما تمخضت عنه قدرة المخلوقات.

٢٦٥

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) والسبيل القاصد هو الطريق المستقيم الذي لا التواء فيه (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالمشيئة التكونية. ولكن اراد بالمشيئة التشريعية ان تكون هداية منه تعالى وباختيار عباده ، ليستحق المهتدي باختيار الثواب ونعيم الجنان. ويستحق المختار للضلال العذاب والنكال في مهاوي النيران لسوء اختياره وعصيانه.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))

البيان : الماء ينزل من السماء وفق النواميس التي خلقها الله في هذا الكون ، والتي تدير حركاته وتنشىء نتائجها وفق ارادة الخالق وتدبيره. هذا الماء يذكر هنا نعمة من نعم الله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) : في تدبير الله لهذا الكون ونواميسه المواتية لحياة البشر وما كان الانسان ليستطيع الحياة على هذا الكوكب لو لم تكن نواميس الكون مواتية لحياته ، موافقة لفطرته ملبية لحاجاته. وما هي بالمصادفة العابرة ان يخلق الانسان في هذا الكوكب الارضي.

والذين يتفكرون هم الذين يدركون حكمة التدبير. وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما ينشئه على الارض من حياة وشجر وزروع وثمار. وبين النواميس العليا للوجود. ودلالتها على الخالق ، وعلى وحدانيته ، ووحدانية تدبيره. أما الغافلون فيمرون على مثل هذه

٢٦٦

الاية في الصباح والمساء ، في الصيف والشتاء. فلا توقظ ضمائرهم الغافلة عن هذا النظام الفريد.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) : من مظاهر التدبير في الخلق. وظواهر النعمة على البشر في آن : الليل والنهار والشمس والقمر فكلها مما يلبي حاجة الانسان في الارض. فظاهرة الليل والنهار ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) : ونظرة الى هذه الذخائر المخبوءة في الارض المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم. ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة اليها : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) : ونعمة البحر وأحيائه تلبي كذلك ضرورات الانسان. وأشواقه ، فمنه اللحم الطري من السمك. ومنه استخراج اللؤلؤ والمرجان والمجوهرات (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) : ففي الجبال في الغالب تكون منابع الانهار. حيث مساقط الامطار. وفي السماء من النجوم التي يهتدي بها السالك في الليل الى الجهة التي يقصدها. خصوصا حينما يكون المسافر في البحر الذي لا يوجد له أي علامة على جهته الا النجوم.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

٢٦٧

البيان : لقد استعرض ألوانا من النعمة ، فهو يعقب عليها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فضلا على أن تؤدوا شكرها. وأكثر النعم لا يدركها الانسان. لانه يألفها فلا يشعر بها الا حين ما يفقدها. وهذا تركيب جسده. ووظائف أعضائه وحواسه. متى يشعر بما فيه من انعام الا حين يدركه المرض بضعف بعضها وتعطيل وظيفتها. فحينئذ يحس بانعمه التي كانت ثم زالت.

والخالق يعلم ما خلق ، يعلم الخافي والظاهر : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ ، وَما تُعْلِنُونَ) فكيف يساوونه بتلك الالهة المدعاة وهي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا. فضلا عن غيرها. بل انهم الاموات الا من أحياه الله ومن ثم فهم لا يشعرون بما يصيبهم وما يجرى لهم من احوال. (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) وما يشعرون ايانا يبعثون) : والاشارة هنا الى البعث وموعده فيها تقرير ان الخالق العظيم ، لا بد ان يعلم موعد البعث سواء كان الموت ، أو الحياة بعد الموت. وعنده يستوفي الاحياء جزاءهم على ما قدموا. فالالهة التي لا تعلم من البعث شيئا كيف تستحق أن تعبد من دون الذي خلقها ومتى أراد اعدامها ، وهذه سخرية بالعابدين لها.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

البيان : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فكل ما سبق في السورة من آيات الخلق ، وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي الى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة ، الواضحة الاثار في نواميس الكون وتناسقها وتعاونها كما سلف الحديث.

٢٦٨

فالذين لا يسلمون بهذه الحقيقة ، ولا يؤمنون بالاخرة ـ وهي فرع عن الاعتقاد بوحدانية الخالق وحكمته وعدله ـ هؤلاء ، لا تنقصهم الآيات ولا تنقصهم البراهين. انما تكمن العلة في كيانهم وفي طباعهم ، أن قلوبهم منكرة جامدة لا تقر بما ترى من الايات (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ). فالقلب المستكبر ، لا يرجى له ان يقتنع أو يسلم. ومن ثم فهم مكروهون من الله.

هؤلاء المستكبرون ذووا القلوب المنكرة التي لا تقتنع ولا تستجيب اذا سئلوا : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) لم يجيبوا الجواب الطبيعي المباشر فيتلوا شيئا من القرآن. فيكونوا أمناء في النقل. ولو لم يعتقدوه. انما يعدلون عن الجواب الامين فيقولون : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

والاساطير هي الحكايات الوهمية الخرافية. وهكذا يصفون هذا القرآن ، الذي يعالج النفوس والعقول ، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس وعلاقات المجتمع وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل ، حيث لم يوافق أهواءهم ومصالحهم الفاسدة الظالمة. فقد كانت قريش دعاية لحرب الاسلام. ويديرها امثال قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين المفسدين في الارض الظالمين للعباد. لا يريدون التسليم للحق والبرهان.

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

البيان : التعبير صور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف. اشارة الى دقته واحكامه. ومتانة ضخامته ، ولكن

٢٦٩

هذا كله لم يقف امام قوة الله وتدبيره. (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) : وهو مشهد رائع للتدمير الكامل الشامل. يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم. فألقواعد التي تحمل البناء تتحطم وتتهدم من أساسها. والسقف يخر عليهم من فوقهم ، فيطبق عليهم ويصبح لهم قبرا ومدفنا : (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) : فاذا البناء الذي بنوه وأحكموه يصبح مقبرتهم ومدفنهم.

انه مشهد كامل الدمار والهلاك ، وللسخرية من مكر الماكرين ، وتدبر المدبرين ، الذين يقفون لدعوة الله ، ويحسبون مكرهم لا يرد ، وتدبيرهم لا يخيب ، والله من ورائهم محيط.

وهو مشهد متكرر في الزمان. قبل قريش وبعدها. ودعوة الله ماضية في طريقها مهما مكر الماكرون ، ومهما دبر المدبرون ، وبين كل حين وحين يتلفت الناس فيذكرون ذلك المشهد المؤثر الذي رسمه القرآن المجيد. (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وآتاهم العذاب ... (هذا في الدنيا وفي الآخرة يخزيهم ويقول (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)

(إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) : فيعود السياق بهم خطوة قبل خطوة القيامة. يعود بهم الى ساعة الاحتضار ونهاية هذه الحياة. والملائكة تقبض أرواحهم الشريرة الظالمة. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فاذا هم مستسلمون لا يهمون بنزاع أو خصام فيقولون : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) : وهو مشهد مخزي ، وموقف مهين لاولئك المتكبرين. (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلا سبيل الى الانكار والتكذيب وجوارحكم عليكم شهود :

(فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ـ (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ).

٢٧٠

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

ان المتقين يدركون أن الخير هي قوام هذه الدعوة ، وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي. وتوجيه وتشريع. فيلخصون الامر كله في كلمة : (قالُوا خَيْراً) ثم يفصلون هذا الخير مما أنزل الله تعالى.

ثم يعود السياق للمتقين خطوة أخرى. كما عاد لمن قبلهم خطوة للمتكبرين. فاذا هم في مشهد الاحتضار. وهو مشهد رائع كريم.(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) طيبة نفوسهم مطمئنة راضية بكل ما اختار لها خالقها العظيم ونبيها الكريم. وامامها سيد الوصيين (ع) وابناؤه الغر الميامين :

(يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) طمأنة لقلوبهم وترحيبا بقدموهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وفي ظل هذا المشهد بشقيه ، مشهد الاحتضار ومشهد البعث يعقب السياق بسؤال عن المشركين والمتكبرين فيقول : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) ..

عجيب امر الناس فانهم يرون ما حلّ بمن قبلهم ممن يسلكون طريقهم ثم يظلون سائرين في الطريق غير متصورين ان ما أصاب غيرهم يمكن أن يصيبهم. وغير مدركين ، ان سنة الله تمضي وفق ناموس مرسوم وان الاسباب تعطي دائما نتائجها. وان الاعمال تلقى دائما جزاءها. وان ليس في سنة الله محاباة. (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا

٢٧١

أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وقد جهزهم الله بقوة التدبر والتفكر والاختيار. وعرض عليهم آيات الحكمة والاعتبار ، في الافاق وفي أنفسهم وفيمن مضى من قبلهم. وما أصابهم الا نتائج اعمالهم السيئة. ونواياهم الخبيثة (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

البيان : انهم يحيلون شركهم وعبادتهم للمخلوقات. وأوهام الوثنية التي يزاولونها على ارادة الله. ومشيئته : (فلو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء) وهذا دجل أو وهم والله حاشا ان يرضى لعباده الكفر والضلال. وهو الذي اعتنى في نشأتهم وهدايتهم وارسال الرسل والشرايع لهم لعلهم يهتدون.

وهذا هو الخطأ في فهم معنى المشيئة الالهية ، وتجريد الانسان من أهم خصائصه. وهي ارادة الاختيار التي وهبها الله له لاستخدامها في الحياة ، لكسب سعادة الدنيا والاخرة.

فحاشى لله أن يريد لعباده الشرك والضلال المهلك لهم. ولذا أوجب عليهم فعل ما فيه سعادتهم في الدارين وهددهم على ترك ذلك بالعذاب والنكال في الدنيا والاخرة.

٢٧٢

وحرم عليهم ما فيه هلاكهم وشقائهم وهددهم على فعله بأقسى العقوبات وهي الخلود في نار جهنم في الاخرة. والخزي والشقاء في العاجل قبل الاجل. فقال عزوجل (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فهذا أمره وهذه ارادته لعباده وقال تعالى : (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال عزوجل :

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) انما خلق الله تعالى الخلق ليسعدهم ويرفعهم من صف البهائم والحيوانات الى مراتب الابرار والصديقين والملائكة المقربين. وقد منحهم العقل حتى يرجحوا به الخير على الشر. والصلاح على الفساد والطاعة على العصيان. فنبذوا عقولهم واتبعوا اهواءهم فسوف يلقون غيّا.

ثم شاءت حكمته تعالى ألا يدعهم لهذا العقل وحده. بل وضع لهذا العقل ميزانا صحيحا انزله من عنده الى رسله وأمرهم بتبليغه لعباده ليزنوا أمورهم عليه في جميع شؤونهم.

ولم يجعل الرسل جبارين يلوون أعناق الناس الى الايمان بالله والاذعان له بالطاعة. ولكن ارسلهم مبشرين ومنذرين ، مبلغين ومرشدين ، وترك للخلق الخيار فمن شاء فليؤمن فله من الله تعالى الكفالة من كل حاجة والعافية من كل بلاء والحراسة والحماية من كل خوف ورعب. وله في الاخرة جنات النعيم خالدا فيها ابدا. ومن شاء فليكفر فيكيله الله الى نفسه ولا يبالي بأي وادي هلك (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) : لقد كانت قضية البعث والحياة بعد الموت ، دائما هي مشكلة التنازع عند كثير من الناس ، منذ ان أرسل الله رسله للناس يأمرونهم بالمعروف ، وينهونهم عن المنكر. ويخوفونهم حساب الله وعذابه وخصوصا بعد الموت.

٢٧٣

وهؤلاء المشركون من قريش اقسموا بالله ـ ليخدعوا العوام ـ لا يبعث الله من يموت. فهم يقرون بوجود الله ولكنهم ينفون عنه بعث الموتى من القبور. يرون ان البعث أمرا عسيرا. وغفلوا أو تغافلوا عن أن معجزة الحياة الاولى أعظم وأصعب من الثانية التي هي عبارة عن جمع ما تفرق. اما الاولى فهو ايجاد ما لم يكن أصلا موجودا. فأي الحالتين أسهل وأعسر.

والسياق يرد على تلك المقولة الفاسدة. يكشف ما يحيط بها من الاضاليل فقال تعالى :

(بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) ومتى وعد الصادق وجب اليقين بالوفاء. ويستحيل ان يعد بما لا يقدر عليه مع ان القدرة المطلقة من أوليات صفات الالوهية لان العجز نقص والناقص مخلوق لا خالق والامر لدى الخالق هين لا يحتاج الا الى الارادة (انما قولنا اذا أردناه ان نقول له كن فيكون).

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

البيان : فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم ، هؤلاء يرجون في الاخرة عوضا عن كل ما خلفوا وتركوا. هؤلاء الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون لا يشركون به احدا في الاعتماد والتوجه.

(وما أرسلنا قبلك الا رجالا نوحي اليهم) أي لم نرسل ملائكة أو خلقا غير بشر للبشر.

(فسئلوا أهل الكتاب الذين جاءتهم الرسل من قبل : أكانوا بشرا

٢٧٤

أم ملائكة (ان كنتم لا تعلمون) (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) سواء منهم السابقون أهل الكتاب أم غيرهم. فقد جاء القرآن ليفصل في هذا الخلاف. وليبين لهم وجه الحق فيه (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في آيات الله والقرآن فانه يدعو دائما الى التفكر والتدبر. والى اليقظة والشعور).

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

البيان : وأعجب العجب في هذا البشر أن يد الله تعمل من حولهم. وتأخذ بعضهم أخذ عزيز مقتدر فلا يغني عنهم مكرهم ولا تدبيرهم ، ولا تدفع عنهم قوتهم ولا علمهم ولا مالهم.

وبعد ذلك يظل الذين يمكرون على استمرار في مكرهم ، فلا يعتبرون. ويظل الناجون آمنين فلا يوقظهم ذلك الى الحذر والردع عما هم عليه خشية أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم وقد شاهدوا ذلك ولا يخشون أن تمتد يد الله فتأخذهم وهم في صحوهم ولعبهم ونومتهم. واعراضهم عن الرجوع الى الله والقرآن المجيد يلمس وجدانهم لعلهم يتفكرون فيما يرون ويشاهدون ويحذرون قبل نزول العذاب بهم :

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ).

ذلك والكون من حولهم بنواميسه وظواهره يوحي اليهم بالايمان والاذعان والتسليم لخالقه. وبهذا المشهد العجيب من الاشياء الخاشعة والخاضعة لطاعة خالقها وتسجد له بالاذعان والتسليم فلا يستكبرون عن

٢٧٥

عبادة الله ولا يخالفون عن أمره مع قوتهم وعظمتهم وهذا البشر الضعيف يستكبر ويشذ في هذا المقام العجيب ، للانكار والاستنكار في مشهد هذه المخلوقات الضعيفة المعاندة.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))

البيان : لقد أمر الله عزوجل عباده ألا يتخذوا آلهين اثنين ، ويأخذ التعبير اسلوب التقرير فيتبع كلمة آلهين بكلمة اثنين ، ويتبع النهي بالقصر (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ويعقب على النهي والقصر بقصر آخر. (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) دون سواي بلا شبيه أو نظير. ويذكر الرهبة زيادة في التحذير. ذلك انها القضية الاساسية في العقيدة كلها. لا تقوم الا بها. ولا توجد الا بوجودها.

وهكذا يتفرد سبحانه وتعالى بالالوهية والملك والدين والنعمة والتوجه. وتشهده فطرة البشر بهذا كله حين يصهرها الضر وينفض عنها أوشاب الشرك. ومع هذا فان فريقا من البشر يشركون بالله بعد توحيده حالما ينجيهم من الضر المحيق بهم فينتهوا الى الكفر والاشراك بنعمة الله عليهم وبالهدى الذي آتاهم. فلينظروا اذن ما سيصيبهم بعد المتاع القصير : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

٢٧٦

البيان : وما تزال اناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت يجعلون نصيبا من رزق الله لهم موقوفا على ما يشبه آلهة الجاهلية ، ما يزال بعضهم يطلق عجلا يسميه (عجل السيد البدوي) يأكل من حيث يشاء لا يمنعه احد. ولا ينتفع به احد. حتى يذبح على اسم السيد البدوي. لا على اسم الله. وما يزال بعضهم ينذرون للاولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا لله. ولا باسم الله. ولكن باسم ذلك المولى او الولي. على ما كان أهل الجاهلية.

(تالله لتسألن عما كنتم تفترون) بالقسم والتوكيد الشديد. فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ـ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) : ان الانحراف في العقيدة لا تقف آثاره عند حدود العقيدة ، بل يتمشّى في أوضاع الحياة الاجتماعية وتقاليدها.

فالعقيدة هي المحرك الاول للحياة. سواء ظهرت أو كمنت. وهؤلاء عرب الجاهلية كانوا يزعمون ان لله البنات ـ هن الملائكة ـ على حين انهم كانوا يكرهون لانفسهم ولادة البنات. فالبنات لله. اما هم فيجعلون لانفسهم ما يشتهون من الذكور. حتى أسدت لهم عقيدتهم المنحرفة من وأد البنات.

ويرسم السياق القرآني صورة منكرة لعادات الجاهلية : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) مسودا من الهم والحزن والضيق. وهو كظيم. يكظم غيظه وغمه كأنها بلية نزلت عليه من السماء. مع أن الانثى والذكر هبة الله. وما يملك هذا الكاره لوجود الانثى ان لا يضع الانثى في رحم أهله. وحكمة الله ، وقاعدة الحياة ، اقتضت أن تنشىء الحياة من زوجين ذكر وانثى. فالانثى أصيلة في نظام الحياة كاصالة الذكر بدون ادنى تفاوت ، بل ربما كانت أشد اصالة

٢٧٧

لانها المستقر الاول للجنين. فكيف يجوز ان يغتم من وهبها الله له. وكيف يتوارى من سوء ما وهبه الله له. ونظام الحياة لا يقوم الا على وجود الزوجين دائما. ولو فقد احدهما لفقدت الاحياء من الجنس البشري.

انه انحراف العقيدة تنشىء آثاره في انحراف المجتمع وتصوراته وتقاليده (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

وهكذا تبدو قيمة العقيدة الاسلامية في تصحيح التصورات والاوضاع الاجتماعية ، وتتجلى النظرة الكريمة القويمة التي بثها في نفوس العالم بأجمعه تجاه المرأة التي هي هبة الخالق العظيم.

ولم تكن المرأة هي المغبونة وحدها في المجتمع الجاهلي الوثني. انما كانت (الانسانية) في أخص معانيها. فالانثى نفس انسانية ، اهانتها اهانة العنصر الانساني الكريم. ووأدها قتل للنفس البشرية. واهدار لشطر الحياة ، ومصادمة لحكمة الخالق العظيم ، التي اقتضت أن يكون الاحياء جميعا من ذكر وانثى. لا خصوص النوع البشري :

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) اثنين (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ٥١ / ٤٩ ي.

وكلما انحرفت المجتمعات عن العقيدة الصحيحة عادت تصورات الجاهلية تطل بقرونها. ففي كثير من المجتمعات اليوم يتشاءمون ويكرهون ولادة الانثى. ومع هذا يقدمونها على الرجل في مجتمعاتهم وهذا التناقض في أفعال المجتمع تحصل من انحراف العقيدة عن الخط الالهي الذي رسمه الاسلام. (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) : وهنا تقترن قضية الشرك بقضية انكار الاخرة. لانهما ينبعان من معين واحد. وانحراف واحد. ويختلطان في الضمير البشري. وينشئان باثارهما في النفس. فاذا ضرب مثل للذين

٢٧٨

لا يؤمنون بالاخرة. فهو مثل السوء في كل شيء. في السلوك والشعور. والاعتقاد. والعمل. والتصور. والتعامل (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ذو النعمة والحكمة البالغة. الحكيم الذي يضع كل شيء فيما يجب وضعه في مكانه الحق والصواب.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)

تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥))

البيان : ان الله تعالى قد خلق هذا الخلق. من البشر وأنعم عليه بآلائه. وهو وحده الذي يفسد في الارض ويظلم وينحرف عن خط الله المستقيم. فيطغي ويؤذي سواه من الخلق والله بعد هذا يحلم عليه ويرأف به. ويمهله ولا يهمله. فهي الحكمة البالغة التي تصحب القوة القاهرة. والرحمة الواسعة. ولكن الناس لجهلهم بالله يغترون بامهال الله عزوجل لهم. فلا تستشعر قلوبهم جوده فيسارعون الى شكره. قبل ان يأخذهم عدله وقوته. عند الاجل المسمى لهم في علمه. واعجب ما في الامران المشركين يجعلون لله ما يكرهون من البنات. ثم يزعمون كاذبين ان خيره سينالهم بما لم يفعلوا من اعمال الخير الذي يحبه الله ويثيب اهله خيرا.

وأعجب من ذلك كله ان اكثر الذين يدعون الايمان في عصرنا الحاضر القرن العشرين يخافون فوات ما يطلبون. وهم يعترفون المقسوم من الله لا يمكن ان يمنعه مانع. ويقفون على ابواب اعداء الله صاغرين

٢٧٩

اذلاء. بغية ان يطلبوا منهم شفاية او عطاء او حماية. وهم يقرأون قوله عزوجل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ)

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))

البيان : فهذا اللبن الذي تدرّه ضروع الانعام مم هو مستخلص من بين فرث ودم. والفرث ما يتبقى في الكرش بعد هضم الطعام. وامتصاص الامعاء التي تتحول الى دم ولبن. بقدرة الله وحكمته صنع الله الذي لا يدري سواه كيف يتكون ويصير دما احمر. ولبنا ابيض متناقضان وهما طعام واحد وماء واحد. وعملية تحويل هذا الغذاء الى اصناف متباينة عملية عجيبة فائقة. ولا يملك الانسان سوى ان يقف امام هذه العمليات حائرا مبهوتا. وينظر كيف تهتف كل ذرة في جسم هذا الانسان بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الانساني او الحيواني الذي لا يقاس اليه اعقد جهاز من صنع البشر ولا الى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى.

ولم يزل هذا الصنع العجيب سرا مجهولا لدى هذا الانسان المتعجرف المتكبر الشامخ. وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة للبشر وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها. فضلا على ان يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة

وما يملك انسان يحترم عقله ان يمارس في هذا او يجادل. ووجود

٢٨٠